قصة قصير … الوداع الأخير

كتبت : الدكتورة اميرة النبراوي  ـ مصر 

دقت الساعة الثالثة عصراً، نظرت نبيلة في خزانة ملابسها وهي مبتسمه، سألت نفسها، أي ثوب البس ويكون مناسباً لجمالي، أود أن أكون أجمل سيدة في الحفل، ثم راحت تردد :
ـ كم شغلتني الحياة وتربية اولادي، ضاع عمري في تربيتهم وتعليمهم وزواجهم، والآن انا وحيدة، ما بين ذكرياتي واحزاني .
اختارت فستاناً اسوداً طويل كفستان الاميرة (آن أودري)، ضيق نوعاً ما، ارادت أن تُبين تضاريس جسدها الانثوي الصاخب، تزينته بإكسسوار من القلادة والقرط والأساور، وضعت مكياجاً خفيفاً، نظرت لقوامها في المرآة، تحسست جسدها بأصابعها اليتيمة، لمست صدرها وخصرها، تنهدت بحرقة وقالت :
ـ وااااااااااااه، كم انهكتك السنين ايها الجسد الناعم، مر وقت طويل وأنت كأرضٍ خصبة بلا مُزارع، يضرب فأسه فيك كي تُخضر، ولا شريك لك ولو باللمس او حتى يشارككَ التمني والحديث .
أكملت زينتها وبدت أكثر إشراقاً وتألقاً، اختفت التجاعيد التي كانت تشعرها بكبر سنها، ابتسمت مره اخرى وهي تُبلل شفهاها بطرف لسانها، شعرت أن روح الشباب تسري في جسدها من جديد، اختارت تسريحه لشعرها وجملته بحبات من الماس، وبدت كـ ملكه أسطورية، وضعت شالها الحريري على كتفها، وعطرها الفرنسي الشهير، ورذاذ العطر يملأ المكان بربيع دائم بإحساس حب الحياة،
نظرت لصورة زوجها المُعلقة على جدار غرفتها الموحشة وقالت :
ـ في حياتك كنت وحيدة، بعد وفاتك وانا وحيدة، كتب عليِّ القدر أن كون وحيدة !!!
كان زواجهم تقليدي بارد، خالي من المشاعر والاحاسيس، عاشت حياة غير مُرحب بها، لم تملك شيءً من الروح ما يجعلها تعيش على رصيدها في القادم من حياتها …
نزلت درجات السِلم بثقة واحساس، كأنها تولد من جديد، وصلت الاوبرا الساعة السابعة مساءً، اخبروها أن الدخول بعد ساعة، جلست في الكافتيريا تراقب المكان في سعادة وشعور رهيب، انتابتها أُلفه مع المكان، كأن حياتها تشهد أهم حدث في عمرها، راودها شعور بأن الحياة بدأت من اليوم .
طلبت فنجان قهوة وأحتسته بلذه ، وكأنها تُقبل شفاه الفنجان، واذا بها وهي ترفع الفنجان تلاحظ نظرات متفحصه متسائلة :
من تكونين أيتها الجميلة ؟ من رجل يجلس أمامها، راقي في مظهره.
أيضا هو طلب فنجان من القهوة ناظراً اليها بنظرات حانيه، وكأنه ينادي عليها بقلبه قبل عينيه، إستمر ينظر إليها وكان النظرات بينهما قُبلات رطبه .
شعرت نبيلة برعشه في جسدها، وكأن الزمن رجع بها الى صباها، اخرجت المرآة من حقيبتها، تلمست شعرها، ونظرت الى وجهها وحمرة الخجل تكسوه .
بعد تلك النظرات التي ابدها ذلك الشخص لها، شعرت بالإرتباك، انهت بسرعة قهوتها، مدت يدها الى كوب الماء البارد الذي أمامها، امسكت به وقربته من شفتاها، وهو كان يبصرها من بُعد .
قالت في سِرها :
ـ يا ربي ماذا ؟ بنظرات هذا الرجل لي أشعر انه يربكني بشكل غريب .
دفعت حسابها واتجهت الى باب الدخول، كان مقعدها في الصف الاول، جلست وأجواء المكان واضواءهُ ساحرة، تزيدهُ بهجة واشراق .
جاء الرجل خلفها، وجلس في المقعد المجاور لها ..
تمتمت بصوت مُنخفض :
ربي ما هذا … أيُعقل أن يجلس في المقعد الذي بجانبي هذا الرجل .
كان حقاً رجلاً أنيقاً شرقي السمات، يملك نظره ساحرة تخطف قلبك.
بدأ الحوار
ـ مساء الخير يا هانم، فرصة سعيدة .
ـ مساء النور يا باشا .
ـ اول مرة تأتي الى الاوبرا ؟
ـ نعم اول مرة .
ـ أنا اُتابع كل حفلات الاوبرا .
ـ رائع .
ـ فاتك الكثير، الاوبرا حياة بكل معنى الكلمة .
ـ الحقيقة كنت مشغولة جداً في حياتي والوقت محدود .
ـ بالعكس، كلما شغلتنا الحياة بمشاكلنا، احتاجنا نُروح عن أنفسنا .
ـ صدقت .
ـ لابد أن تأتي كثيراً، كي نتقابل مرات اخرى .
ـ أن شاء الله .
ـ ممكن لي بسؤال ؟
ـ تفضل .
ـ لماذا اتيتي لوحدك ؟
ـ أنا أرمله من عشرين عاماً، واولادي تركوني بين اربعة جدران وأثاث قديم وذكريات ميته .
ـ ياه وكيف تعيشي وحيدة وانتي سيدة جميلة، هذا ليس عدلاً وانصافاً .
ـ ولماذا أتيت وحيداً، أرى خاتم الزواج في يدك .
ـ نعم أنا أب لأسرة كبيرة، لكني وحيد، زوجتي لها عالمها من زمن بعيد ولا تُقدر إحتياجي لها، حاولت أن اشركها عالمي، لكن دائماً ترفض حياتي … منفصلين جسدياً، نعيش تحت سقف واحد لأجل الأولاد، حينها قررت إلا استسلم لوحدتي ابداً، وان استمتع بكل لحظه في حياتي، أننا نعيش العمر مرة واحدة، ولا أحد يشعر بلحظة وحدة نعيشها .
راحت تسأل نفسها ؟ :
ـ أهو صادق او هو كلام الرجال المُعتاد، أي رجل يدخل لامرأة جديدة من هذا المدخل .
سرحت طويلاً وهي تفكر، ودقات قلبها كطبول الحرب، تقرع بشدة في صدرها .
كان يسمعها وهي تُتمتم بصوت مُنخفض، فقال .
ـ ممكن أسألك يا هانم .
ـ تفضل .
ـ اسم حضرتك ؟
ـ لماذا تريد أن تعرف اسمي .
ـ لم اقصد ازعجك اسف .
ـ لا ابداً لا يوجد ازعاج .
ـ أكرر اعتذاري .
ـ ابداً، اسمي قريده .
ـ وأنا أحمد ، أتمنى أن تعتمدي عليا في أي شيء، أعتبريني صديق من اليوم …
بدأ العرض، أطفئوا أضواء المسرح، صوت الموسيقى الهادئة ملئت الصالة، أغمضت نبيلة عيناها، استرخه جسدها، أخذتها السعادة مع نوتات العزف، كانت أصابعها الناعمة تتناغم مع أصابع البيانو، شعرت وكأن لها جناحين تُحلق بهما فوق عالم المسرح، رقصت الطفلة التي في داخلها، حلت ضفائرها، وراحت تبحث عن فراشاة ملونه في حديقة الامل القادم …
إلا أن قلبها المكسور يرغمُها بالحوار معه، كذلك هو يُبادله نفس الشعور بالحديث .. في كل لحظة يترك العرض المسرحي ويخطف نظرات اليها، وهي تشعر به . انتهى الجزء الاول من الحفلة، استراحة ثم نواصل العرض .
طلب منها أن تُلبي دعوته على فنجان قهوه، وافقت على دعوته لكن بخجل وتردد .
احساسها غريب وهي وحيدة تجلس أمامه، بدا في تبادل أطراف الحديث معاً :
ـ هل لديك عمل ؟
ـ الحمد لله اعمل
ـ أنا رجل أعمال، لدي مشاريع كُثر .
ـ وفقك الله .
ـ تسمحي لي برقم تليفونك !
ـ ابتسمت وقالت : ماذا تفعل به ؟
ـ اطمئن عليكِ من وقت لآخر، سوف اعطيك رقمي للتأكيد !!
ـ اه، بكل سرور، لكن أنا لن اتصل بك حتى لا زعجك .
ـ كم أنتِ رقيقة وراقية …
تناولا القهوة والسعادة تغمُر وجوههم … وقال لها :
ـ أنتِ وحبك وقهوتي وباقي العالم لا يعنيني
اشتعل وجهها بحمرة الخجل، وكأنها مراهقة، تسمع اول مره كلمات حب وغزل مع إحساس أُثوي فاضح . ابتسمت برقة ولم تنطق .
ـ لفت انتباهي فستانك، تسريحة شعرك، عطرك الذي ملئه المكان، كم انت جميلة يـ امرأة …
ابتسمت وقالت :
ـ مهلاً مهلاً مهلاً، بدأ عرض المسرح .
قاما الى المسرح وأكملا الحفلة، كان الكل غياب، الى نظراتهم وكأن فيها شفاه تحمس بكلام الحب الخفي …
خرجا معاً، صافحته وقَبل يدها وقال :
ـ تفضلي اركبي سيارتكِ كي اطمئن عليكِ .
ـ اشكرك على ذوقك، كم انا سعيدة بلقائك الليلة .
ـ والله نفس الشعور، اليوم سيكتبه تاريخي، أشعر بسعادة غامره .
ركبت سيارتها واتجهت الي منزلها وهي تسمع اغنية عبد الحليم (أول مرة تحب يا قلبي)، وصلت إلى منزلها واذا بها تشاهدهُ يتبعها ويلوح بيده :
ـ من المفترض اطمئن عليكِ، حتى وصلت بالسلامة …
لم تجد كلمات ترد بها عليه، نزلت من سيارتها واشارت له بالشكر الجزيل على هذا الاهتمام ..
دخلت شقتها وهي تشعر بحاله غريبة لأول مرة تشعر بها، غيرت ملابسها وهي مبتسمه وتقول لنفسها :
ـ كم هو جميل إحساس انك ما زلت تنبض حباً واحساساً …
غسلت وجهها ودخلت المطبخ لتتناول العشاء، شعرت إن هذه الليلة غريبة وجميلة، ثم دخلت غرفتها لتنام …
خاصم النوم جفونها حتى الفجر، قامت وتوضأت وصلت الفجر واذا بالتليفون يرن، رفعت السماعة :
ـ وحشتيني
ارتبكت، وقعت سماعة الهاتف من يدها، رفعتها وقالت :
ـ نعم، تفضل ؟
ـ ممكن ان نتقابل غداً الظهر ونتغدى، بحاجة للحديث معك .
ـ حاضر
ـ تصبحي على خير
ـ وانت من أهل الخير
في الصباح اليوم التالي، فتحت خزينة ملابسها واختارت فستان الوانه زاهية تسر الناظرين والعاشقين، يرمز للون الحياة المُقبلة .
تقابلا، ودام العشق بينهما ايام واسابيع واشهر عديدة، يزداد حبهما كل يوم بل كل لحظة، عشقهم حبهم اسرارهم، تشاركوا في كل شيء، صار لحياتهم طعم، طعم بلون الحياة، لكم أيُ حياة وهي مجهولة !!!
نزلت لعملها وهي سعيدة، دخلت لمكتبها كالشمس المشرقة، رن جرس الهاتف، رفعت السماعة، قال :
ـ وحشتيني حبيبتي …
ـ من أين أتيت برقم العمل ؟
ضحك وقال :
ـ متى نتقابل ؟
ـ بعد نصف ساعة انتهي من عملي ؟
ـ سأنتظرك في اروع مكان على النيل …
تقابلا وكان الحياة لكل منهما تبدأ من جديد، تحدثا وضحكا معاً وتذكرا الذكريات في حياتهما، غابت الشمس، وجاء الغروب، نظرت الى الشمس وهي تنزل في الماء، تبدلت ابتسامتها بحزن عميق، لاحظها علي وامسك بيدها ورفعها الى شفتاههُ وقبلها وقال :
ـ انا رأيتك من زمن بعيد، لماذا تأخرتي عني ؟
ـ لماذا تأخرت عني، كم افتقدتك .
تكلم عن تفاصيل حياته، وأولاده، الذين كل احتياجهم له المادة فقط، لا حب ولا مشاعر، تعود أولاده على تلبية كل طلباتهم، أما الزوجة، كلما وجدته ناجحاً زادت من جرعات (العكننه) …
بكا بين يديها وقال :
ـ فريده انتِ أجمل هدية من السماء في أخر عُمري، أرجوكِ لا تتركيني وحيدا، انتِ النور في حياتي، انا راضي بكل ما تبقى من وقتك لي، حبيبتي لن أكون إلا لسعادتكِ، سأعوضك عن كل لحظه الم في حياتك، سأكون سندك ما تبقى من عمري، اعتبريني الأب والحبيب والزوج والعاشق المتيم ..
بكت بحرقة وقالت :
ـ لم اسمع في حياتي كلمة رقيقة مثل كلماتك، ولم أري مثل احساسك، كم انت جميل بكل معنى كلمة الجمال .
سهرا حتى الفجر، ركبت سيارتها، تبعها الى ان وصلت منزلها، ذهب الى منزله و يشعر بسعادة لم يعشها يوم في عمره، دخل غرفة مكتبه وسأل نفسه أهو حباً سرمدياً أم بداية علاقة زواج، وكيف يتم الزواج ؟ وهل سيتركني اولادي أنعم بالسعادة الباقي من عمري، أم سيتخذون موقف العدو مني؟ وهل زوجتي ستتركني أعيش مع حبيبتي؟ أم تتملكها مشاعر الغيرة والحقد وتحاول تدميري عن طريق اولادي؟ ربي ما هو الحل ؟ …
صمم على مقابلة فريده في أسرع وقت للوصول معها الى حل، اتصل بها كعادته اليومية ليسأل عن أحوالها، دعاها للمقابلة فوراً، شعرت وهي تحدثه أن هناك أمر هام، سألت نفسها ماذا يريد مني، انا لا أقدم أي تنازلات، هل سيطلبني للزواج، الفكرة مطروحة للمناقشة، لكن، كيف يتم، وهل أنا قادرة على مواجهة اولادي وأسرتي؟ كل تلك الأسئلة مرت بعقلها ولم تنم في ليلتها …
في الصباح ذهبت إلى عملها، وحين جاء موعد اللقاء أسرع الى مكانهم المعتاد، جلست بانتظاره، جاء بعد دقائق وقال لها :
ـ فريده ، انا لا اقدر على هذا الوضع، مرت عدة شهور وانا لا استطيع الاختلاء فيكِ، حبيبتي هناك شقة خاصة الينا .
ـ الموقف ليس بالسهولة التي تتصورها، كيف اترك بيتي ؟ وماذا اقول لأولادي ؟ .
ـ اولادك لن يشعروا بمعاناتنا ..
ـ زوجتك سوف تجلب لك المشاكل، واولادك لن يتقبلوا فكرة زواجك من امرأة اخرى على امهم، الكل سيحاول تدميرنا، أولادنا اعتبرونا ملكية خاصة لهم، لن نعيش ما بقي من العمر، الموضوع أكبر مني ومنك صدقني، دعنا نفكر مره اخرى …
رجعت الى منزلها والدموع تملأ عينيها، لم تنم حتى الصباح، ثم قامت واستعدت للخروج الى عملها، انتظرت مكالمة أحمد حبيبها ، لكن لم يتصل، ارتجف قلبها بشده، ربي رحماه هل حدث له مكروه، هل علمت زوجته بالعلاقة، يا رب مالذي آخره عني، أشتاق لصوته، افتقده صباح الخير يا حبيبتي وروح قلبي .
خرجت مُسرعة الى عملها، وأمام احد مكاتب الإتصال، اتصلت لأول مره بمنزله لم يرد عليها أحد، وجدت رسالة صوتية تقول :
ـ لا يوجد أحد في المنزل، الجميع مع الأب في احدى المستشفيات، لوجوده في العناية المركزة، نتيجة ازمه قلبيه مفاجئة .
سقطت سماعة الهاتف من يدها وانهمرت بالبكاء واتجهت الى مكان المستشفى، ترقب أسرته من بعيد، وكأنها في انتظار مريض آخر، بعد فترة طويلة خرجت الأسرة من المستشفى، ثم ذهبت لأحدى الممرضات وسألت عن حاله علي، قالت الممرضة :
ـ من تكونين ؟
ـ انا زوجته الثانية .
ـ انتِ فريده ؟
ـ نعم من أين عرفت اسمي ؟
ـ الأستاذ أحمد ، منذ دخوله وهو يهمس بإسمك، واستحلفني بالله ان لا يرى أحدا غيرك . تفضلي ادخلي أمامك خمس دقائق فقط أرجوكِ تلك هي التعليمات .
دخلت الى غرفتة وقلبها يملئه الخوف والرعب، خوفاً أن يفارقها، وقفت بجواره وامسكت بيده وقبلتها، كان وجههُ شاحب وتبدو عليه صفرة الموت، فتح عينيه وازاح قناع الأوكسجين وقال لها :
ـ عشقتك وأحببتك حباً صادقاً، لكن القدر لم يمهلني أن أحيا معكِ واسعد كباقي البشر .
بكت بشده وهي تحتضن يده بيديها، وهنا شعرت ببرودة في يده ونظرت الى عينيه وهو ينظر لها بصعوبة بالغه، والدموع منهمرة على وجنتيه، قبلت وجهه لأول مره في حياتها، شعرت بأن جسده بارد، تركت يده على السرير والممرضة تقول لها :
ـ كفاية كده يا مدام .
خرجت تركضُ مُسرعة، والممرضة تصرخ بصوت عالي، (يا دكتور الحقنا)، المريض حالته خطيرة، واجراس الإنذار تدق في أرجاء العناية القصوى، وقلبها يصرخ، لا تتركني، أبق معي، يا رب أحببته بكل احساسي يا رب أعطى له كل حياتي، انه كل الحب، خُذ عمري وابقيه على قيد الحياة، كفى، أن قلبي نبض بالحب فيه بعد هذا العمر ..