و.ض.أ / الاحساء / زهير الغزال
القى أم المصلين فضيلة الشيخ الدكتور أحمد بن علي الحذيفي إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف، وبدأ خطبته بقوله: هنيئاً لكم – معشر المؤمنين والمؤمنات- عيدكم الذي تختالون في حدائقه ورياضه، وتنهلون من عذب معينه وحياضه، وافيتم من إبان الزمان ربيعه وشبابه، وقطفتم من جنى العام ثمرته ولبابه، فلا زالت أيامكم أعيادًا، ولا انبت سروركم آمادًا، عرفكم الله يمن هذا العيد وبركته، وضاعف لكم سروره وسعادته، وأحياكم لأمثاله في أسبغ النعم وأكملها، وأفسح المدد وأطولها.
وأكمل: هذه مواكب العيد المجيد تتدفق في هذه البطاح الزاهرة والبقاع الطاهرة تدفق الغيث من السماء، يغمر الناس في هذا اليوم الأغر من مشاعر البهجة والأنس والسرور ما يغمر الروض الجديب حين يتندى بماء السماء، وما يغمر المشتاق حين يستقبل الغائب المحبوب، إنه يوم ينضح في النفوس رواء السرور، وينفح في القلوب عبق الصفاء والحبور، بعد موسم عظيم من مواسم العبادة، تجلت فيه منة الله وبركاته، وانهمرت فيه آلاؤه ورحماته، بعد أن ارتوت الأرواح من معين العبادة في شهر الصيام.
وأضاف فضيلته: إن يوم العيد في الإسلام مع قصر ساعاته يشبه لحظات السرور في الزمن الممتد، سريعة ساعات انقضائها، طويلة آثار بقائها، يعلق في القلوب من مشاعر حبورها ومظاهر سرورها علوق الطيب بصاحبه حينًا، حتى يعاودها الشوق للعيد الذي يعقبه حنينًا، فتتشوق إليه تشوق الضاحي إلى الظل الفينان وقت الهجير، وتتحرق إليه تحرق الظامئ إلى العذب النمير.
وبيّن: إن هذا الدين العظيم دين التوحيد والشريعة والعبودية الخالصة لله وحده، كما أنه دين الحياة ودين الدنيا، ودين العمران والبناء، ودين الأخلاق والقيم، فهو دين متوازن متكامل البناء، يتجلى ذلك الكمال في معالم الجمال المنطبع في مناحي الحياة جميعها، لأن شارعه -تعالى وتقدس- جميل يحب الجمال: جمال الظاهر وجمال الباطن، فهو سبحانه جميل في ذاته وجميل في صفاته وجميل في أفعاله، حتى فاض ذلك الجمال الرباني في كونه وخلقه، وفي تشريعه وأحكامه.
وأوضح فضيلته: ليست ديانة الإسلام بالرهبانية الخرساء التي تنطوي خلف أستار الطقوس العبادية وحدها، ولا بالمادية الجوفاء التي تهرع خلف سراب المظاهر البائدة فحسب، ولكنه دين الحياة المتدفقة التي تضج بصمت في عروق الوجود، وتهدر هدير السيل في التهائم والنجود، ويتزين به الكون جمالاً وجلالاً، وبناء وعطاء، وأخلاقاً وقيماً، إنه دين جامع بين جمال الظاهر والباطن، وبهاء التعامل وصفاء القلوب، وغضارة المحيا البسام، وتدفق البشر في جنبات الحياة، فهو كالنهر العذب يرتوي منه المسلم لينطلق في هذا الكون الفسيح محققًا مراد الله في خلق هذا الإنسان حيث يقول سبحانه: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلْأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)؛ وعن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما في الجاهلية، فقال: (إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الفطر، ويوم النحر)، يشرع العيد في الإسلام بعد أداء عبادتين عظيمتين وانقضاء موسمين جليلين من مواسم العبادات الكبرى، ليجمع الشارع الحكيم سبحانه بين ثنائية التهذيب الروحي والإرواء الإيماني، وبين الاستمتاع بمباهج الحياة الضاحكة للنفس الإنسانية، في ازدواجية بديعة تجلي كمال ذلك التشريع الرباني الذي يريد منه الشارع السمو بالنفس الإنسانية والارتقاء بها من مجرد المظاهر المادية أو العبادية إلى يفاع من التكامل الإنساني، تساوقًا مع متطلبات هذا المخلوق الإنساني البديع في تكوينه الظاهر والباطن.
وأكمل: لا تنزعوا ما تحليتم به من لباس التقوى وتزينتم به من حلل الطاعات في شهر الصيام، فإن لباس التقوى وحلل المكارم وأردية الشمائل إذا اكتسى صاحبها زينة الظاهر، وتزين بمحاسن المظاهر، فقد أشرقت شمس كمالاته واستنارت، واستتمت بدور محاسنه واستدارت.
وأضاف فضيلته: إن بعثة سيد الأنام وهجرته إلى هذا المقام كان على الحقيقة هو يوم الدنيا وإشراقة شمس التاريخ، حين أطلت شمس هذه الملة الخاتمة على حين فترة من الرسل وظلام من الدنيا، فانبعثت شمسها من هذه البلاد الطيبة المباركة هداية للعالمين وحضارة للدنيا وإنسانية للإنسان في كل مكان؛ كان ما قبل ذلك التاريخ المجيد ظلامًا حالكًا لا يعرف منه التاريخ إلا مزقًا من الأخبار المتناثرة، حتى اطرد التاريخ وتتابعت أحداثه بتلكم الإشراقة الربانية في تلكم الرسالة المحمدية، فتتابعت سلاسل التاريخ المجيد للحضارة الإنسانية من حلقة البعثة النبوية والهجرية المدنية المحمدية لذلك النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم نورًا وهداية وحضارة وإشراقًا ورحمة في الأخلاق والتشريع والسلوك والبناء والحياة، انطلقت تلك السلسلة من هذه البطاح الزاهرة والبقاع الطاهرة؛ فهو صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام، وذلك أنه لما أخذ في بناء البيت العتيق دعا الله كما حكى الله في تنزيله حيث قال سبحانه: ؟وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِـۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ)؛ ثم ما أرق دعاء إبراهيم عليه السلام وأدقه حين عبر بالأفئدة في قوله: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)؛ فهذه مواكب الزائرين والقاصدين تتدفق عليها وكأنها تقدم عليها وتأوي إليها بقلوبها لا بأقدامها، كالمحب المشوق إذا طار قلبه إلى المعشوق.
واختتم فضيلته الخطبة بقوله: إن خدمة قاصدي الحرمين الشريفين ورعاية المسجدين المقدسين والقيام على خدمتهما والعناية بقاصديهما من أسمى المفاخر وأسنى المآثر، وهي من منن الله الجليلة على ولاة أمر هذه البلاد المباركة، أولتهما قيادة هذه البلاد عنايتها، وجعلتها موضع رعايتها، ولقد جمع الله بفضله ومنته لولاة أمر هذه البلاد هذا الشرف المديد، وهيأ لهم هذا المجد الفريد، فهي من أعظم المنن المستوجبة منا شكر الله المزيد، والدعاء لهم بعظيم الأجر وكمال التسديد.
Share